روسيا و أطراف الصراع في اليمن في ظل المتغيرات الإقليمية والعالمية .. هل ستتخلى عن مبدأ الحياد ؟
ملخص تنفيذي
تتمتع روسيا الاتحادية بعلاقات اقتصادية كبيرة مع المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، وهما الدولتان الداعمتان للحكومة اليمنية المعترف بها دولياً وللمعسكر المناهض لجماعة أنصار الله؛ وبنفس الوقت تربطها علاقة استراتيجية مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وهذه الأخيرة تربطها علاقة استراتيجية وطيدة مع جماعة أنصار الله؛ ونظراً لهذه العلاقات والمصالح المتشابكة، فإن روسيا وضعت نفسها على مسافة متساوية من جميع أطراف الصراع المحتدم في اليمن منذ عام 2015. وعلى الرغم من أن هذا يبدو تموضعاً مثالياً للعب دور إيجابي في جلب أطراف الصراع حول طاولة المفاوضات والوصول إلى تسوية سياسية شاملة في اليمن، فإن تطورات الموقف الغربي إزاء الحرب الروسية-الأكرانية، وتطورات الصراع بين إسرائيل ومحور المقاومة بشكل عام قد يدفع بروسيا إلى أن تتخلى عن تموضعها في المنطقة الرمادية والانحياز لجماعة أنصار الله بطريقة لا تؤثر على دورها الإيجابي في الأزمة اليمنية.
مقدمة
تعود علاقة روسيا الاتحادية (الاتحاد السوفيتي سابقا) مع اليمن بشطريه الشمالي والجنوبي سابقاً إلى خمسينيات وستينيات القرن الماضي، حيث دعمت الجمهورية العربية اليمنية حينها (اليمن الشمالي) في مرحلة تأسيسها في بداية ستينات القرن الماضي وفي أثناء حصار السبعين يومًا، فأنشأت جسرا جويا لإمداد الثوار بالذخائر والأسلحة، ثم شيدت أول مستشفى أقيم بعد قيام الجمهورية، وكان السفير الروسي هو السفير الوحيد الذي بقى موجوداً في العاصمة صنعاء في أثناء حصار السبعين يومًا.
أما فيما يتعلق بعلاقتها مع جمهورية اليمن الديموقراطية سابقاً (اليمن الجنوبي)، فقد احتلت تلك العلاقة موقعاً متقدما حيث ظل الشطر الجنوبي من اليمن أقوى حليف “للاتحاد السوفيتي” في العالم العربي خلال فترة السبعينيات والثمانينيات وهو ما أتاح له بناء أكبر القواعد العسكرية في المنطقة العربية، خصوصاً في محافظات عدن ولحج وسوقطرى، وعندما تفكك الاتحاد السوفيتي في نهاية الثمانينيات، تخلت موسكو عن دعمها ل”جنوب اليمن”، وتخلت عن قواعدها العسكرية، وفقدت تأثيرها الجيوسياسي في اليمن والمنطقة العربية عموماً ؛ لكن ذلك لم يدم طويلاً؛ فقد استعادت روسيا قوتها الاقتصادية و العسكرية ومن ثم أخذت -بوصفها قوة عظمى- تسعى إلى إعادة أمجادها ولعب دور أكثر حزمًا وتأثيراً في السياسة العالمية خارج حدودها الجغرافية، ومن ضمن هذا التوسع هو استعادة علاقتها مع الجمهورية اليمنية التي ولدت في عام 1990 بعد وحدة اندماجية بين “اليمن الشمالي” و”اليمن الجنوبي”، ومن ثم استعادت نفوذها العسكري والجيوسياسي على البحر الأحمر وخليج عدن، وظلت على علاقة دبلوماسية واقتصادية وعسكرية قوية مع الجمهورية اليمنية تحت حكم الرئيس الراحل علي عبد الله صالح، وتجلت تلك العلاقة حين سحبت معظم دول العالم بعثاتها الدبلوماسية والقنصلية من صنعاء عامي 2014 و2015 إثر تدهور الوضع الأمني والعسكري والسياسي في اليمن، إذ أبقت روسيا على سفارتها مفتوحةً في صنعاء حتى تاريخ مقتل الرئيس السابق علي صالح إثر مواجهات مسلحة مع جماعة أنصار الله في ديسمبر 2017.
لطالما أكدت روسيا على عبثية الحل العسكري لإنهاء الصراع في اليمن مستغلةً كل مناسبة للتأكيد على أهمية التوصل لحل سياسي وسلمي للصراع في اليمن، وأبدت تأييدا للتقارب السعودي مع جماعة أنصار الله الذي عُرف بخارطة الطريق، وكان من المتوقع التوقيع عليه مع نهاية عام 2023، لكنه تجمد بسبب التطورات العسكرية في المنطقة.
منذ بداية الصراع قبل 10سنوات، تميز النهج الروسي بانفتاحه على جميع الفاعلين في الأزمة اليمنية؛ إذ يقف- كما يبدو– على مسافة متساوية نسبياً من أطراف الصراع: جماعة أنصار الله المدعومة من إيران، الحكومة المعترف بها دولياً المدعوم من السعودية، والمجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم من الإمارات العربية المتحدة، والمكتب السياسي للمقاومة الوطنية المدعوم من الإمارات أيضاً. ومع ذلك، للحفاظ على مصالحها الاستراتيجية، وخاصة في سياق المساعدات العسكرية الغربية لأوكرانيا، قد تتخلى روسيا عن استراتيجية المسافة المتساوية وقد تجد نفسها أحد أطراف الصراع.
تسعى هذه الورقة إلى تسليط الضوء على الدور الروسي في الأزمة اليمنية الحالية، والسيناريوهات المتوقعة خلال الفترة القادمة.
النهج الروسي مع أطراف الصراع:
علاقة روسيا بالحكومة المعترف بها دولياً
اعترفت موسكو رسمياً بشرعية الرئيس السابق عبد ربه منصور هادي منذ انتخابه عام 2012 حتى استقالته في عام 2022 ليحل محله مجلس رئاسي (مكتبه الرئيسي العاصمة المؤقتة عدن) برئاسة الدكتور رشاد العليمي، وعضوية سبعة أعضاء (نواب) منهم اللواء عيدروس الزبيدي، رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي (مقره الرئيسي عدن)، و العميد طارق صالح، رئيس مكتب المقاومة الوطنية (مقرها الرئيسي مدينة المخاء التابعة لمحافظة تعز)، وقد رحبت روسيا – كما جاء في بيان للخارجية الروسية- بإنشاء مجلس القيادة الرئاسي، معربة عن أملها بأن يبذل المجلس كل ما بوسعه لإحلال السلام “وإعادة هذا البلد الصديق تاريخياً إلى الحياة السلمية”، بحسب البيان.
وخلال عهدي الرئيسين هادي أو العليمي، زار عديد من مسؤولي الحكومة اليمنية موسكو، ويتضح عمق تلك العلاقة في أن روسيا كانت هي المحطة الأولى التي يزورها رئيس مجلس الوزراء اليمني أحمد عوض بن مبارك (27 فبراير 2024) بعد أقل من شهر على تعيينه بمنصب رئيس الوزراء ( 5 فبراير 2024 )، وتم خلال الزيارة الاتفاق على تفعيل اللجنة اليمنية الروسية المشتركة، وتلا ذلك زيارة لوزير الخارجية اليمني شائع الزنداني في نهاية شهر أغسطس الماضي؛ وكما كانت روسيا آخر الدول التي أغلقت سفارتها في صنعاء في نهاية عام 2017، ها هي اليوم (19 سبتمبر 2024 ) تعلن فتح سفارتها في عدن، لتكون أول دولة تعيد فتح سفارتها في العاصمة المؤقتة التي تتبع – نظرياً- الحكومة المعترف بها دوليا.
وعلى الرغم من هذه العلاقة القوية والمتطورة على ما يبدو، فمن المرجح أن تشعر الحكومة المعترف بها دولياً بالقلق إزاء العلاقات الاستراتيجية بين موسكو وطهران، لأن هذا من شأنه أن يعزز قوة جماعة أنصار الله ويخل بتوازن القوى بشكل أكبر مما هو عليه الأن بين جماعة أنصار الله والحكومة المعترف بها دولياً. بعبارة أخرى، قد تؤدي العلاقات الوثيقة بين موسكو وطهران إلى تعزيز قوة أنصار الله عسكريًا وسياسيًا على حساب الحكومة المعترف بها دولياً، خصوصاً إذا ما أخذنا موقع روسيا العسكري بوصفها واحدة من أكبر منتجي الأسلحة المتقدمة في العالم وعضو دائم في مجلس الأمن (وسيتم شرح هذه النقطة بمزيد من التفصيل في الفقرات التالية).
علاقة روسيا بجماعة أنصار الله
سعت جماعة أنصار الله- منذ وصولهم إلى السلطة عام 2014 – إلى إقناع روسيا بإقامة علاقة دبلوماسية وربما علاقة عسكرية، ومع أن مصالح روسيا الاقتصادية والجيوسياسية لم تكن متناغمة مع رغبتهم في التدخل، فقد ظلت روسيا- بطبيعة الحال- تنظر إليهم بوصفهم معارضين للسياسية الأمريكية؛ فأبدت بعض التعاطف معهم لتقويض نفوذ الولايات المتحدة. ففي أبريل 2015، كانت روسيا العضو الوحيد في مجلس الأمن، التابع للأمم المتحدة، الذي امتنع عن التصويت على القرار 2216، الذي فرض حظرًا على تسليح جماعة أنصار الله ودعا إلى إعادة شرعية الرئيس السابق هادي إلى صنعاء. وفي فبراير 2018، استخدمت روسيا حق النقض ضد قرار مجلس الأمن الدولي بتمديد حظر الأسلحة المفروض على جماعة أنصار الله. كما عارضت موسكو أيضًا، تصنيف إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للجماعة كمنظمة إرهابية أجنبية، ودعت بدلًا عن ذلك، إلى عملية سلام شاملة داخل اليمن.
وفي خضم تطورات الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وهجمات جماعة أنصار الله على السفن المتعلقة بإسرائيل وما تلاها من هجمات أمريكية وبريطانية على أهداف لجماعة أنصار الله في اليمن، كان موقف موسكو الذي عبر عنه مندوبها الدائم لدى الأمم المتحدة (فاسيلي نيبينزيا): “إن روسيا تدين- على نحو قاطع- عدوان الدول الغربية على اليمن، الذي يحدث دون أي عقوبات من مجلس الأمن الدولي”. وبشكل عام، تدين الدبلوماسية الروسية، الولايات المتحدة وبريطانيا، بسبب الهجمات غير المصرح بها على جماعة أنصار الله وتعتبرها استخداما غير قانوني للقوة.
في خضم التطورات الجارية على الساحة الدولية والإقليمية، خاصة المتعلقة بالحرب الروسية في أكرانيا أو المتعلقة بالحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، تتواصل المحادثات الدبلوماسية بين روسيا وجماعة أنصار الله مرة أخرى، وذلك بعد استضافة العاصمة موسكو في 10 أغسطس 2022، لوفد من جماعة أنصار الله بقيادة محمد عبد السلام الذي صرح في نهاية زيارته بأن “هناك تغيرات حقيقية في الموقف الروسي”، وبالمثل صرح عبد السلام على حسابه بمنصة “إكس” في ختام زيارة مماثلة لموسكو في يناير 2024 في سياق الأوضاع في غزة والتصعيد في منطقة البحر الأحمر: “التقينا ظهر اليوم، في موسكو، الممثل الخاص للرئيس الروسي لشؤون الشرق الأوسط وأفريقيا نائب وزير الخارجية الروسي، ميخائيل بوغدانوف، حيث جرى عرض أوضاع المنطقة، خصوصاً ما يجري في غزة من جرائم إبادة جماعية مدانة ومرفوضة، وضرورة تكثيف الجهود الدولية للضغط على أمريكا وإسرائيل لوقفها، وتم إيضاح موقف اليمن المساند لغزة وما تعرض له من عدوان أمريكي بريطاني حمايةً لإسرائيل، وأن الأولى بأمريكا وقف العدوان على قطاع غزة وإدخال المساعدات الإنسانية إليه لا الذهاب نحو عسكرة البحر الأحمر. وتم استعراض آخر تطورات التفاوض والنقاش مع المملكة العربية السعودية بوساطة سلطنة عمان الشقيقة بشأن تطورات العملية السياسية اليمنية.
وبالمقابل أكدت موسكو أن الحوار- خصوصاً بين السعودية والحكومة اليمنية المعترف بها دوليا من جهة و وطهران وجماعة انصار الله من جهة أخرى- يظل ضرورة للوصول إلى حل سلمي للصراع في اليمن، وكانت قد أعلنت في بداية عام 2022 سعيها لعقد مؤتمر إيراني -عربي تشمل أجندته القضايا الإقليمية الأكثر إلحاحا وبينها الأزمة اليمنية.
علاقة روسيا بإيران
تتمتع روسيا بروابط وثيقة مع إيران، وفي خضم الصراع الروسي- الأكراني الذي اندلع في 24 فبراير 2022، تعمل موسكو وطهران على توطيد العلاقات العسكرية بينهما، وترددت أنباء بأن طهران تقدم دعماً عسكرياً لموسكو، وبالمقابل فإن الغرب يمد كييف بأسلحة استراتيجية، بما في ذلك “صواريخ ستورم شادو” التي يتراوح مداها بين 250 و400 كيلومتر، وصرحت بعض الدول الغربية مثل أمريكا وبريطانيا وألمانيا وفرنسا بأن لأوكرانيا الحق في استخدام الأسلحة التي زُوِدَت بها لضرب أهداف في روسيا، وفي هذا السياق، وكرد فعل من طرف موسكو، حذر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في مستهل شهر يونيو الماضي من أن منح أوكرانيا الضوء الأخضر من الدول الغربية لاستخدام سلاحها لاستهداف أراضي بلاده قد يحتم عليه الرد بالمثل، قائلاً: “إذا كان أحد يعتقد أنه يمكن تقديم أسلحة مماثلة في منطقة المعارك لضرب أراضينا (…) لماذا لا يكون لنا الحق في إرسال أسلحتنا من الطراز نفسه إلى مناطق في العالم توجه فيها ضربات إلى منشآت حساسة تابعة للدول التي تتحرك ضد روسيا؟”.
يبدو أن هذا التصريح قد فتح التكهنات للعديد من السياسيين الأمريكيين ولبعض وسائل الإعلام بأن موسكو قد بدأت فعلاً بإمداد طهران، العدو اللدود لواشنطن، بأسلحة متطورة لتوزيعها على محور المقاومة الذي يواجه حالياً تل أبيب، الحليف الأقوى لواشنطن في المنطقة العربية.
كانت صحيفة “وول ستريت جورنال” قد حذرت من احتمال قيام روسيا بتسليح جماعة “أنصار الله” اليمنية بصواريخ متطورة مضادة للسفن، ردا على دعم واشنطن لأوكرانيا، إذ يمثل أحد الدوافع التي تدعو موسكو إلى تسليح الحوثيين هو احتمال أن تقرر الدول الغربية السماح لأوكرانيا باستخدام أسلحة غربية لضرب أهداف في العمق الروسي.
وفي هذا الصدد ووفقاً لرويترز (24 سبتمبر 2024) فإن إيران تتوسط في محادثات سرية جارية بين روسيا وجماعة أنصار الله لنقل صواريخ متطورة إليهم، و في هذا السياق أيضاً، قال تيم ليندركينغ :”إنه رأى أدلة “مقلقة للغاية” على أن روسيا تسعى إلى تسليح الحوثيين”، وحذر في تصريح لوكالة فرنس برس-على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك (24 سبتمبر 2024) – إن موسكو “تبرم صفقاتها الخاصة” مع الحوثيين للسماح لسفنها بالمرور دون أن تتعرض لأذى”، وأضاف ليندركينغ “لدينا تأكيد بأن الروس والحوثيين يبحثون سبل التعاون”، ومن بين ذلك نقل الأسلحة، وتابع “لا نعلم إن كان نقل الأسلحة يتم بينما نحن نتحدث، لكن الأمر بلغ حدا يستدعي أن ندق جميعا ناقوس الخطر لضمان عدم حدوث ذلك”. وأكد ليندركينغ أنه لو قيّض لعمليات نقل الأسلحة أن تتم، “فمن المحتمل أن يغير ذلك النزاع بشكل كبير”، محذرا من “تصعيد” من شأنه حرف الجهود المتوقفة حاليا لإنهاء النزاع المستمر منذ عقد في اليمن، عن مسارها.
ومع أن موسكو وطهران لم تردا على تلك التصريحات بالتأكيد أو النفي فإن المتحدث الرسمي باسم جماعة أنصار الله محمد عبد السلام قال لرويترز: “لا علم لدينا بما ذكرتم”.
علاقة روسيا بالمجلس الانتقالي
لما كانت موسكو- كما سبقت الإشارة- تتعامل مع الأطراف اليمنية من مسافة متساوية بعض الشيء، فإن تعاملها مع المجلس الانتقالي ليس استثناء، لكنها تبدو أنها تتعامل معه بنوع من الودية وكأنها تمنحه بعض الشرعية الدولية، ويبدو ذلك واضحا من خلال الدعوات الرسمية التي تلقاها المجلس الانتقالي لزيارة موسكو وكذلك زيارات مسؤولين روسيين للمجلس الانتقالي في مكتبه الرئيسي بالعاصمة المؤقتة عدن، حيث تكررت زيارات رئيس المجلس الانتقالي اللواء عيدروس الزبيدي إلى العاصمة موسكو كان آخرها في مارس 2023 وربما كانت هذه الزيارة له بصفته عضو مجلس القيادة الرئاسي، وسبقتها زيارتان الأولى في مارس 2019 والثانية في يناير 2021، وبطبيعة الحال كانت هاتان الزيارتان بدعوات من وزارة الخارجية الروسية بصفته رئيس للمجلس الانتقالي الجنوبي.
وفي المقابل، دعا المجلس الانتقالي السفير الروسي السابق (فلاديمير ديدوشكين) لزيارته في مقر إقامته بالعاصمة المؤقتة عدن في مارس 2019، فتم استقباله من قبل المجلس الانتقالي في مطار عدن بمراسم وعلم الانفصال؛ ففرش له السجاد الأحمر وعزفت فرقة مسلحة تتبع المجلس الانتقالي السلام الوطني لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية التي توحدت مع الجمهورية العربية اليمنية في عام 1990 ليشكلا معاً ما يعرف اليوم بالجمهورية اليمنية؛ وفي وقت سابق كان السفير نفسه قد صرح في العام ٢٠١٩ بأن “جنوب اليمن هو منطقة مهمة في البلاد يجب تمثيلها كما يجب في تسوية سلمية محتملة”، وهذا التأكيد على أهمية حل “القضية الجنوبية” في اليمن بوصفه جزءًا أساسيًا من إنهاء الحرب الأهلية في البلاد هو التأكيد نفسه الذي طالما كرره الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في كثير من لقاءاته.
وبالمثل، استقبل رئيس الإدارة العامة للشؤون الخارجية للمجلس الانتقالي الجنوبي في فبراير الماضي (2024) ، في مطار عدن الدولي، رئيس دائرة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بوزارة الخارجية الروسية السفير الكسندر كينشاك والوفد المرافق له.
من غير المرجح أن تدعم روسيا انفصال الجنوب، على الأقل في ظل الظروف الحالية، لكن اهتمامها بجنوب اليمن قد يعكس روابطها التاريخية، والأهم من ذلك، مصالحها الجيوسياسية وتطلعاتها إلى توسيع نفوذها في الشرق الأوسط من خلال توسيع دائرة نفوذها في منطقة البحر الأحمر. أي أنه و على الرغم من علاقاتها الوثيقة مع المجلس الانتقالي الجنوبي، فقد أكدت روسيا دائمًا على دعمها للوحدة اليمنية واعترافها بشرعية حكومة يمنية واحدة، شرعية الحكومة المعترف بها دوليًا.
علاقة روسيا بالمقاومة الوطنية
تتجلى علاقة قائد المقاومة الوطنية ورئيس مكتبها السياسي العميد (طارق صالح) بروسيا من حرصه على موسكو محطته الأولى في أول زيارة خارجية له (يونيو 2021) منذ خروجه من صنعاء- إبان مقتل عمه، الرئيس الأسبق علي عبد الله صالح (ديسمبر 2017) ، ومع أنه لم يعلن عن أسباب تلك الزيارة فقد جاءت في أثناء فترة نشطة للدبلوماسية الروسية، إذ سبقه بأيام وزير الخارجية في الحكومة المعترف بها دولياً، أحمد عوض بن مبارك، إلى زيارة روسيا حيث التقى خلالها نظيره الروسي، سيرغي لافروف، في إطار المساعي الحكومية لإيجاد “دور روسي أكبر” لخلق قناة تأثير على جماعة أنصار للقبول بدعوات السلام الدولية المتنامية. وتأتي أيضاً بعد أيام من زيارة قام بها المبعوث الأممي، هانس غرندبيرغ، إلى موسكو.
وفي 18 سبتمبر الحالي، وصل عضو مجلس القيادة الرئاسي طارق صالح إلى العاصمة الروسية موسكو، والتقى بوزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، الذي أكد على دعم موسكو للقيادة الشرعية في اليمن، ولجهود السلام بقيادة الأمم المتحدة، لافتًا إلى قرار روسيا إعادة فتح سفارتها في عدن لتحسين التواصل والتنسيق مع الحكومة اليمنية. ووفقًا لما نشرته وكالة “سبأ” الرسمية ، فقد ناقش العميد طارق مع وزير الخارجية الروسي الحاجة إلى بذل جهود دولية جماعية لدفع مبادرات السلام في اليمن، وإشراك جميع الأطراف تحت رعاية الأمم المتحدة والأشقاء والأصدقاء الدوليين، وأهمية العمل الدولي الموحد من أجل تحقيق الاستقرار الإقليمي وحماية الأمن البحري، خاصة في البحر الأحمر.
علاقة روسيا بالمملكة العربية السعودية
منذ بداية التسعينيات سعت روسيا إلى تعزيز علاقتها مع السعودية لأسباب اقتصادية وجيوسياسية، وكون البلدين عضوين كبيرين في منظمة أوبك النفطية فقد أدى ذلك إلى تقوية العلاقات الاقتصادية بينهما، لكن دأبت روسيا على انتقاد التدخل السعودي في اليمن، على الرغم من أنها غضت الطرف عن تمرير القرار 2215 الذي أعطى الشرعية للسعودية والتحالف للتدخل في الشأن اليمني، ويبدو أن تلك الانتقادات للسعودية كان هدفها الرد على انتقادات السعودية لدعم موسكو للرئيس السوري بشار الأسد، من ناحية، ولعلاقتها مع إيران ومع جماعة أنصار الله.
مؤخراً جرى الحديث وفقا لما كشفه موقع إنتليجنس أونلاين الفرنسي المعني بالشأن الاستخباراتي (31 مارس 2023 )، من أن السعودية طلبت من روسيا التوسط من أجل تسوية الصراع الجاري بالوكالة في اليمن بين المملكة وإيران. وأضاف الموقع، أن كبار المسؤولين في رئاسة الاستخبارات العامة السعودية عقدوا مؤخرًا سلسلة من الاجتماعات مع جهاز المخابرات الخارجية الروسي؛ لتبادل المعلومات الاستخبارية حول توريد الأسلحة للحوثيين، وأن الرياض تأمل أن تلعب موسكو دورًا أوثق في المفاوضات لإنهاء الصراع في اليمن.
وأشارت تلك المصادر الاستخباراتية إلى أن محمد النعماني، رئيس المكتب السلطاني العماني، منخرط أيضًا في تحركات الوساطة من أجل التسوية في اليمن، وناقش تفاصيل ذلك مع السفير الروسي في مسقط، إيليا مورجونوف.
علاقة روسيا بالإمارات العربية المتحدة
تطورت العلاقات الروسية-الإماراتية في الفترة الأخيرة بشكل ملحوظ، ويبدو ذلك جلياً في الزيارات المتعددة التي قام بها محمد بن زايد، نائب ولي عهد أبو ظبي، إلى موسكو وإعلان اتفاق الشراكة الإستراتيجية بين البلدين في عام 2018، واستأنفت الإمارات علاقتها الدبلوماسية مع نظام الأسد المدعوم من روسيا، فضلا عن أن لروسيا دورا في دعم خليفة حفتر، حليف الإمارات في ليبيا. وفي ذلك ما يشير إلى أن هناك توافقا في الروئ بين الدولتين.
وبناء على هذا التوجه، فمن المتوقع أن تواصل موسكو دعم حلفاء الإمارات في اليمن، مثل المجلس الانتقالي الجنوبي والمقاومة الوطنية. وسيكون هذا بمثابة قتل ثلاثة عصافير بحجر واحد: فهو يتماشى مع رؤية الإمارات لدعم حلفائها، وسيعزز قوة المجلس الانتقالي الجنوبي والمقاومة الوطنية سياسيا وعسكريا، وسيخدم في نهاية المطاف المصالح الجيوسياسية الروسية، خاصة وأن مواقع كلا الطرفين تطل على مضيق باب المندب الاستراتيجي.
سيناريوهات
يتضح مما سبق أن روسيا تتمتع بعلاقات وطيدة مع جميع أطراف الصراع المحليين والإقليميين، وحتى وإن بدت متناغمة مع طرف ما أكثر من الآخر فإن ذلك لا يعني أنها ستلقي بثقلها الدبلوماسي في صالح ذلك الطرف، فروسيا كونها قوة عظمى ولها مصالحها الاقتصادية والأمنية والعسكرية ولا يمكن أن تضحي بها إرضاء لهذا الطرف أو ذاك لاسيما أن ملامح المشهد السياسي اليمني القادم ليست واضحة المعالم ولا يمكن التتنبؤ بها خصوصاً في ظل الأوضاع المتقلبة بشكل دراماتيكي في المنطقة؛ وبالتالي، ووفقاً لهذه المعطيات، فإن السيناريوهات التالية هي المتوقعة:
السيناريو الأول: الأبواب المفتوحة للجميع والحياد الاستراتيجي؛ في ظل سعي روسيا لاستعادة نفوذها السياسي والعسكري وفرض قوتها بوصفها لاعبا دوليا، وبما أن دعمها لجماعة أنصار الله سيقوي من علاقتها مع إيران، ودعمها للمجلس الانتقالي سيعزز علاقتها مع الإمارات، ودعمها للشرعية قد يعزز علاقتها مع الحكومة والسعودية، وبما أن هذه الديناميكيات على الأرض ستؤدي، في النهاية، إلى كسب الجميع وتحقيق مصلحة روسيا العليا المتمثلة في تنفيذ أهدافها الجيوسياسية والاقتصادية والعسكرية، فإن روسيا ستظل على نهج الاستمرار في سياسة التوازن بين أطراف الصراع، وستسعى مع المبعوث الأممي والقوى الإقليمية المؤثرة لتبني اتفاق سياسي يهدف إلى تقاسم السلطة بين جميع أطراف الصراع بنسب متفاوتة.
لكن إذا لم يتم هذا بوقت قريب-وهذا محتمل جدا- فقد تتطور الأوضاع الإقليمية والدولية – وهذا محتمل أيضا- فقد تجد موسكو نفسها مضطرة للتخلي عن مبدأ “الحياد الاستراتيجي” وتدعم جماعة أنصار الله نكاية بالولايات المتحدة والغرب وليس من اجل خلخلة ميزان القوى بين اطراف الصراع في اليمن أكثر مما هو عليه الأن، لاسيما أنها (أي وسيا) تمر بفترة صراع مع القوى الغربية الكبرى، وقد يكون من مصلحتها الاقتراب من جماعة أنصار الله، وهذا هو:
السيناريو الثاني: التحالف الاستراتيجي مع أنصار الله
إن الشعبية المتزايدة لأنصار الله محلياً وإقليمياً قد تجذب موسكو لدعمه بغية إضعاف الهيمنة السياسية والعسكرية التي تمارسها الولايات المتحدة وحلفاؤها في المنطقة. بعبارة أخرى، لدى جماعة أنصار الله وموسكو أهداف مشترك (إضعاف الهيمنة السياسية والعسكرية الأميركية)، وبالتالي يتعين عليهما القيام بعمل جماعي مشترك؛ لدى جماعة أنصار الله العزيمة و الإرادة والدافع للإضرار بمصالح الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، وهذا متاح لها في الوقت الحالي عن طريق مهاجمة السفن الأمريكية في البحر الأحمر والبحر العربي، لكنها (أي جماعة انصار الله) قد تكون بحاجة لأسلحة أكثر تطوراً ودقة، وهذا ما تمتلكه موسكو.
يظل هذا السيناريو مرهوناً بنتيجة الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة في نوفمبر الثاني، التي يتوقع أن يكون لها تأثيرا كبيرا وحاسما على مسار الحرب بين روسيا وأوكرانيا، وبما أن سياسات المرشحين الرئيسيين بشأن المساعدات العسكرية لأوكرانيا متباينة بشكل صارخ؛ فمن المرجح أن يؤدي فوز الرئيس السابق دونالد ترامب إلى خفض الالتزام الأميركي بإمداد أكرانيا بالسلاح والدعم المادي، وربما يمنعها من استخدام السلاح الأمريكي لمهاجمة الأراضي الروسية، وهو ما يعود بالنفع على روسيا، ويحسن العلاقات الأمريكية-الروسية، وبالتالي ، قد تضغط روسيا على حليفتها إيران للاستفادة من علاقتها الاستراتيجية مع جماعة أنصار الله بالضغط عليهم لتقديم بعض التنازلات لتسوية سياسية في اليمن. وعلى العكس من ذلك، إذا فازت نائبة الرئيس الأميركي كامالا هاريس، فإن استمرار الدعم الأميركي لأوكرانيا سيستمر، وهو ما يعني إطالة أمد الحرب، و سيعطي كييف حافزًا إضافيًا لاستخدام الأسلحة الأميركية ضد موسكو، وبطبيعة الحال سيكون هذا مبرراً لموسكو لدعم جماعة أنصار الله عسكرياً.
لكن في حال تحقق هذا السيناريو ولجأت موسكو لدعم جماعة انصار الله، فمن المتوقع أن تزود روسيا الجماعة بأسلحة محددة وبناء على اتفاقات مسبقة لاستخدامها ضد المصالح الأمريكية والغربية فقط، وبطبيعة الحال ستكون تلك الأسلحة صواريخ دقيقة مضادة للسفن أو صواريخ بعيدة المدى، وبالتالي لن يؤثر ذلك على توازن القوى بين جماعة أنصار الله والأطراف المعارضة لها في اليمن؛ وبهذا قد تبدو روسيا وكأنها تحافظ على صورتها الحيادية في الصراع اليمني. لكن، إذا تصاعد الوضع العسكري، سواء على الجبهة الروسية-الأوكرانية أو على جبهة إسرائيل- محور المقاومة، فقد تجد روسيا نفسها متورطة في الصراع اليمني بشكل عميق.
السيناريو الثالث: ممارسة الضغط على المجلس الانتقالي؛ المملكة العربية السعودية ترغب في الخروج من اليمن في أسرع وقت ممكن، غير أن شروط المجلس الانتقالي تبقى أبرز تحديات هذا الخروج حيث إنه يشترط تسوية الوضع الجنوبي قبل الموافقة على أي تسوية. وعليه قد تطلب الرياض من موسكو ممارسة نفوذها على المجلس الانتقالي للقبول بتسوية سياسية، مع منحه تطمينات بمعالجة القضية الجنوبية في مرحلة ما بعد الخروج.