الدور الأمريكي في الصراع في اليمن .. تضاؤل الأمل بقرب إنهاء الحرب وإحلال السلام  
ملخص تنفيذي  تتضاءل الآمال في تحقيق السلام في اليمن، خاصة بعد التصريحات التي أدلى بها السفير الأمريكي في اليمن (ستيفن فاغن) من أن الحل السياسي في اليمن لا يزال بعيد المنال و أن خارطة السلام التي قدمتها المملكة العربية السعودية للأمم المتحدة ليست اتفاقية بما تعنيه الكلمة، مشيرا إلى أن الحكومة اليمنية لن توافق على اتفاقية سلام يكون “للحوثيين فيها الكعب الأعلى”. كانت السعودية قد قدمت تنازلات لجماعة أنصار الله بهدف المحافظة على أمنها القومي و الخروج من الصراع في اليمن والتفرغ لمصالحها الاقتصادية، وقُدِمَت تلك التنازلات عندما أدركت الرياض بأن واشنطن قد خذلتها وتركتها وحيدة في وقت كانت في أمس الحاجة إلى الدعم الأمريكي؛ إذ لم تكبح الأخيرة جماح جماعة أنصار الله و تركتها تستهدف العمق السعودي بصواريخها ومسيراتها. بعد عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر، تغير الوضع وأصبحت واشنطن هي من تبحث عن من يساعدها في كبح جماح مسيرات وصواريخ أنصار الله؛ فعملت على إعادة تصنيفها جماعة إرهابية، ووجهت إليها بعض الضربات العسكرية دون جدوى، ثم ضغطت على الرياض للتريث في توقيع اتفاق إنهاء الحرب وما يتضمنه ذلك من حزمة مساعدات اقتصادية لجماعة أنصار الله، كان قد تم التوافق عليها خلال المفاوضات السابقة بينهما، وهناك مؤشرات بأن واشنطن تشجع كلا من السعودية و الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً للتضييق على جماعة أنصار الله اقتصاديا من خلال القرارات الاقتصادية والمصرفية التي تم الإعلان عنها مؤخراً.  وأخيرا، هاهي واشنطن تغازل الرياض بصفقة التطبيع مع إسرائيل، وإذا ما أبرمت هذه الصفقة، فستتبدد مخاوف السعودية الأمنية، ومن ثم قد تتنصل عن بعض الالتزامات التي كانت قد وعدت جماعة أنصار الله بها. سيثير هذا جماعة أنصار الله وهو ما قد يعيد الصراع إلى المربع الأول. تقف السعودية بين خيارين: خيار “الأمن مقابل إنهاء الحرب ودعم الاقتصاد“، وهو الخيار المتمثل في تفاهماتها مع جماعة أنصار الله، أو خيار “التطبيع مقابل الدفاع“؛ ومن واقع المصالح الاقتصادية والأمنية العليا للرياض وبعض التصريحات السياسية، يبدو أن السعودية تميل إلى الخيار الثاني.  من شأن سياسة واشنطن العقابية- عبر السعودية- ضد جماعة أنصارالله أن تتسبب في تعقيدات إضافية للملف اليمني وهو ما يجعل التوصل إلى اتفاق سلام أكثر صعوبة.  ومن هنا يمكن القول: إن عملية السلام المرتقبة في اليمن قد أصبحت في مهب الريح.

مقدمة

الصراع في اليمن متعدد الأوجه ويتشكل مساره من خلال ديناميكيات محلية وإقليمية ودولية معقدة، غير أن المتأمل في بواعثه العميقة يجد أن طبيعة العلاقة بين السعودية والولايات المتحدة هي العامل الحقيقي  الذي يدير دفة هذا الصراع وفقا للمصالح الأمنية والاقتصادية والاستراتيجية لكليهما. و ليس ذلك وليد الوقت الحالي، فمنذ عقود مضت  كان نفط السعودية وأمنها محوري هذه العلاقة وأهم ثوابتها.

وصلت جماعة أنصار الله (المعروفة باسم الحوثيين) إلى السلطة في سبتمبر 2014 ، بعد الإطاحة بحكومة الرئيس السابق عبد ربه منصور هادي، و مثل سيطرتها على العاصمة صنعاء وتمددها في أرجاء اليمن خصوصاً على  حدود المملكة الشرقية والجنوبية كابوسا للسعودية؛ التي تعتبرهم  تهديداً لمصالحها الاستراتيجية ولأمنها القومي، لاسيما  في ظل علاقتهم القوية مع إيران، العدو اللدود للرياض وواشنطن. ولذلك تعين على واشنطن (الحليف القوي للسعودية) تقديم الدعم العسكري واللوجستي للملكة؛ وبطبيعة الحال فإن ذلك يصب في مصلحة الطرفين.

وهكذا أصبحت محاربة أنصار الله ومن ورائهم إيران هدفاً مشتركاً لواشنطن والرياض. وبالمثل، أصبح لأنصار الله وطهران عدوان مشتركان: الرياض وواشنطن. ولهذا، صار يُنظر إلى الحرب في اليمن على أنها حرب بالوكالة بين المملكة العربية السعودية وإيران.

اختارت السعودية خوض الحرب بحجة إعادة حكومة هادي، و دعمتها إدارتا أوباما وترامب عسكريا وسياسيا ولوجستيا، وبررتا  ذلك الدعم من خلال عدسة المصالح الجيوسياسية والاقتصادية الأمريكية.

عندما تولى الرئيس بايدن الرئاسة في بداية عام 2021، أجرى تغييرات كبيرة في سياسة واشنطن تجاه الرياض، خصوصاً فيما يتعلق بحربها في اليمن؛ إذ أوقف مبيعات الأسلحة إلى المملكة العربية السعودية ووعد بإنهاء الحرب، وعين الدبلوماسي (تيم ليندركينغ) مبعوثًا خاصًا لليمن لقيادة جهود السلام، في إشارة كانت واضحة إلى أن الولايات المتحدة قد قررت الابتعاد عن دور الطرف الداعم للحرب والاقتراب من دور الوسيط.

بشكل عام تعاملت إدارة بايدن مع جماعة أنصار الله على أنها “جماعة متمردة”، مدعومة من إيران، وهو ما  يعني أنها حركة محلية يمنية، تمردت على السلطة اليمنية آنذاك لسبب أو لآخر؛ وبهذا لا تمثل تهديدا فعليا على المصالح الأمريكية بشكل مباشر، ويمكن احتواؤها عن طريق القوة الناعمة بدلا عن التدخلات العسكرية المباشرة، فضلا عن أنها قد تسهم في خلق توازنات في المنطقة تصب في مصلحة أمريكا اقتصاديا وأمنيا. 

في مارس من العام الماضي (2023) رعت الصين (الخصم الاقتصادي القوي لأمريكا) اتفاقية لاستعادة العلاقات الدبلوماسية بين المملكة العربية السعودية (الشريك الوثيق لواشنطن) وجمهورية إيران الإسلامية (العدو اللدود لواشنطن)، وأثار ذلك التحرك الصيني قلق واشنطن، التي طالما افتخرت بأنها مهندسة التقاربات الدبلوماسية في المنطقة.

بعد ذلك بشهر واحد، تم الإعلان عن مفاوضات مباشرة بين جماعة أنصار الله والمملكة العربية السعودية بوساطة عمانية، والتقى وفدا الطرفين في كل من صنعاء (أبريل 2023) والرياض (سبتمبر 2023)، وتداولت وسائل الإعلام أنهما كانا على وشك التوقيع على اتفاقية بمقتضاها تنتهي الحرب رسمياً وتقوم السعودية والمانحون الدوليون بعملية إنعاش للاقتصاد اليمني المتدهور.

تمت تلك المحادثات خارج إطار الدبلوماسية الأمريكية؛ وذلك أعاد إلى الواجهة دورًا صينيًا محتملا في رعاية تلك المفاوضات من خلف الستار، وهو ما أثار نقاشًا مستفيضًا في الولايات المتحدة حول أهمية تلك المباحثات وتداعياتها على المصالح الأميركية، وأبدت كثير من الأوساط السياسية الأمريكية قلقها من ذلك، كون أي اتفاق خارج المظلة الأمريكية سيشكل نكسة للدبلوماسية الأمريكية في المنطقة، ناهيك إن كان الراعي المحتمل لهذه المفاوضات هو الصين، المنافس الأقوى للولايات المتحدة.  ومع ذلك، فقد رحبت واشنطن بتلك المفاوضات- ربما على مضض- و حرصت على تجنّب إظهار القلق، لأن التقارب بين أهم طرفين في الحرب قد يمثل دفعة للجهود المبذولة من قبل إدارة بايدن في سبيل إنهاء الحرب.

 ومع ترحيبها بتلك التفاهمات، فقد ظلت الإدارة الأمريكية تركز على الدور الأممي في رعاية تلك المفاوضات وليس على المفاوضات الثنائية بين الرياض وجماعة أنصار الله، فبحسب تيم لندركنج: “يجب أن يمهد هذا الاتفاق الطريق لعملية سياسية يمنية-يمنية شاملة تحت رعاية الولايات المتحدة، التي تشارك بنشاط لحشد الدعم للانتقال إلى مثل هذه العملية الشاملة بقيادة يمنية” ، ومثل هذه التصريحات تنم عن أن الموقف الأمريكي لم يكن مؤيداً تماماً لتلك المفاوضات الثنائية.

الموقف الأمريكي من الصراع في اليمن بعد 7 أكتوبر:

أدت عملية “طوفان الأقصى” التي قامت بها حركة حماس في 7 أكتوبر 2023 إلى تغيرات دراماتيكية في مسار الصراع في اليمن؛ إذ منعت قوات جماعة أنصار الله السفن الإسرائيلية أو تلك المتوجهة للموانئ الإسرائيلية من الإبحار في جنوب البحر الأحمر وعبر مضيق المندب، وشنت هجمات على السفن التي لم تستجب للمنع، ووصفت الجماعة هجماتها “بالمشروعة”؛ لأنها تهدف إلى الضغط على إسرائيل كي توقف عدوانها على قطاع غزة وتسمح بوصول الغذاء والدواء إلى قطاع غزة. 

كان من المنطقي أن يثير ما يجري في البحر الأحمر مخاوف واشنطن (وبريطانيا والدول الغربية بشكل عام)؛ لما يمثله مضيق باب المندب من أهمية لمصالحهما الاستراتيجية؛ فهو من أهم الممرات البحرية في العالم الذي يربط بين قارات ثلاث هي أوروبا وآسيا وإفريقيا، ويتحكم في جزء كبير من التجارة الدولية خاصة تجارة النفط؛ إذ يمر عبره كل يوم حوالي 4.7 مليون طن من النفط الخام، وتسعى أمريكا منذ وقت طويل إلى الحد من النفوذ الدولي والإقليمي على المضيق. 

وإذا كانت واشنطن- بعد حوالي شهر من بدء جماعة أنصار الله بتنفيذ هجماتها ضد السفن الإسرائيلية، وتحديدا في 19 ديسمبر(2023)- قد أعلنت عن تشكيل تحالف، أطلقت عليه “حارس الازدهار”، وهو تحالف دولي متعدد الجنسيات لحماية التجارة في البحر الأحمر؛ فإن التصعيد الذي مارسته وتمارسه جماعة أنصار الله ضد المصالح الأمريكية زاد من الضغط على واشنطن وجعلها أمام خيارات صعبة للغاية تتأرجح بين الرغبة في الرد على جماعة أنصار الله عسكرياً لكن يكبح جماح تلك الرغبة أن في الرد العسكري استثارة لإيران ومحور المقاومة بشكل عام وهو ما قد يؤدي إلى توسيع الصراع خارج حدود غزة وخارج حدود البحر الأحمر، وبين البحث عن خيار آخر يتمثل في إضعاف الجماعة عن طريق تعليق بعض الحوافز التي كانت إدارة بايدن قد قدمتها لجماعة أنصار الله (إزالتها من قائمة الإرهاب وتنشيط حركة الاقتصاد) أو تلك التي كانت تنوي تقديمها (السعي إلى إنهاء الحرب ودعم الاقتصاد).

فيما يتعلق بالشق الأول، أعلنت إدارة بايدن في منتصف يناير الماضي إعادة تصنيف جماعة أنصار الله “منظمة إرهابية عالمية”، بعد أن كانت قد أزالتها من تلك القائمة في بداية عام 2021، ثم شنت موجة من الضربات الجوية ضد أهداف تابعة لجماعة أنصار الله، وبدا واضحاً أن إدارة بايدن بدأت تتخلى عن خيار الدبلوماسية الناعمة مع جماعة أنصار الله. 

وفيما يتعلق بالشق الثاني، أدت عملية “طوفان الأقصى” التي قامت بها حركة حماس في 7 أكتوبر 2023 إلى تغيير الرؤية الأمريكية للصراع و للتوافق السعودي- الحوثي، ويبدو أن واشنطن لم تعد تشجع الخروج السعودي من الصراع في اليمن حتى تتضح معالم الصراع في غزة والبحر الأحمر ومسار الأحداث في المنطقة عموما؛ إذ تخشى واشنطن أن يسهم توقيع الاتفاق في تقوية شوكة جماعة أنصار الله وهو ما سيفتح شهيتها للتمادي أكثر بمهاجمة السفن الأمريكية والبريطانية والإسرائيلية.

وفقاً لما نسبته صحيفة العربي (20 ديسمبر 2023) لمسؤولين سعوديين من أن “الولايـــات المتحدة تمـــارس ضغوطا على الرياض لثنيها عن توقيع الاتفاق مع جماعـــة الحوثي في اليمـــن، بعد تصعيد الجماعـــة في البحـــر الأحمـــر ِ وزعزعتها استقرار الملاحة الدولية.”  وفي السياق نفسه، كانت صحيفة الجارديان البريطانية ( 12 ديسمبر 2023) قد نقلت عن مسؤولين أمريكيين بأن “الولايات المتحدة حذرت جماعة أنصار الله الحوثيين من أن خطة السلام في اليمن التي تم التفاوض عليها مع المملكة العربية السعودية وتم تسليمها إلى مبعوث السلام التابع للأمم المتحدة ستفشل إذا استمرت الهجمات على السفن التجارية قبالة سواحل اليمن.” 

 ومن خلال هذا يمكن تفسير الموقف الأمريكي الحالي، الذي جاء على لسان السفير الأمريكي  في اليمن ( ستيفن فاجن) الذي صرح في مداخلة له قبل أيام أمام المنتدى السياسي الافتراضي الذي نظمه معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى بأن “الولايات المتحدة ترغب في رؤية اليمن على طريق السلام والتنمية المستدامة، وأن يكون بلدًا غير مهدد للمنطقة والمجتمع الدولي. ولكن، يوجد أمامنا مسار صعب جدًا لتحقيق ذلك.”  وأضاف فاجن أن “طريق الحل السياسي في اليمن تحيط به الكثير من الصعوبات وتحقيق السلام في البلاد لا يزال بعيد المنال في الوقت الراهن.” وأكد أن دور المجتمع الدولي في تهيئة الظروف اللازمة لتسهيل عملية السلام في اليمن مهم جداً، لكن “في الوقت الحالي، نحن بعيدون عن ذلك”.

يبدو أن حديث السلام في الوقت الحالي لم يعد مشجعا لواشنطن والعالم الغربي عموماً، وأن التفاؤلات المنبثقة من التفاهمات السعودية مع جماعة أنصار الله- و التي كان مؤملا منها أن تقود إلى عملية سياسية- لم تعد قائمة، ومن الطبيعي أن حديثا كهذا من قبل سفير واشنطن لابد أن يكون قد استند على ما يدور في أروقة السياسة الدولية ومعلومات مؤكدة من داخل غرف السياسة السعودية المغلقة، وكذلك بناء على تقييم واشنطن لما تمثله اتجاهات التصعيد في البحر الأحمر والحرب في غزة.

 في نهاية شهر مايو الماضي، أعلن البنك المركزي في عدن إيقاف التعامل مع عدد من البنوك والمصارف العاملة في المناطق الخاضعة لسيطرة جماعة أنصار الله، وأرجع السبب إلى “عدم التزام هذه البنوك بأحكام القانون، واستمرار تعاملها مع جماعة مصنفة إرهابية وتنفيذ تعليماتها بالمخالفة لقواعد العمل المصرفي وأحكام القانون “، وهذا الإجراء- بحسب خبراء الاقتصاد- من شأنه أن يقوض سلطة جماعة أنصار الله ويقطع وصولها إلى العملة الأجنبية.

وبغض النظر عن أن واشنطن تقف وراء ذلك الإجراء أم لا، فإن الأهم هو ما تعتقده جماعة أنصار الله ، التي رأت أن القرار يمثل “عدوانا اقتصاديا وخطوة خطيرة”، وقال زعيم الجماعة (السيد عبدالملك الحوثي) إن ذلك “عدوان على المجال الاقتصادي وخطوة عدوانية ولعبة خطيرة” و أضاف أن “الإقدام على الضغط على البنوك في صنعاء يأتي ضمن الخطوات الأمريكية دعما للكيان الإسرائيلي”.

وفي الحقيقة، تذهب وكالة “بلومبرج” الأمريكية في نفس الاتجاه؛ إذ ذكرت في تقرير لها نشرته قبل 3 أيام (6 يونيو 2024) أن إجراءات البنك المركزي بعدن تمثل إحدى الخطوات العقابية التي تتخذها واشنطن لوقف هجمات “الحوثيين” في البحر الأحمر ودفعهم للسلام، وأن واشنطن- تضيف الوكالة- أبلغت الأطراف بما في ذلك المملكة العربية السعودية بأن العناصر الرئيسية لخارطة الطريق المنبثقة عن التفاهمات السعودية-الحوثية، التي تقودها الأمم المتحدة و تم الالتزام بها في ديسمبر الماضي؛ لا يمكن المضي بها قدمًا ما لم تنه الجماعة حملتها البحرية العدائية المستمرة منذ ما يربو عن سبعة أشهر.  ونقلت الوكالة عن مسؤول بوزارة الخارجية الأمريكية قوله: إن الاتفاقيات المرتبطة بما يسمى خارطة الطريق التي وضعتها الأمم المتحدة لا يمكن أن تستمر إلا إذا أوقف الحوثيون هجمات البحر الأحمر.  وأضاف: “تزامناً مع القرار الأمريكي بشأن خطة السلام الأممية، اتخذ البنك المركزي اليمني، وهو جزء من الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً والمدعومة من السعودية ومقرها عدن، سلسلة من الإجراءات ضد البنوك الموجودة في مناطق سيطرة الحوثيين، ومن شان ذلك أن يقوض “سلطة الحوثيين”، ويقطع وصولهم إلى العملة الأجنبية. وقال أربعة أشخاص على دراية مباشرة بالوضع- وفقاً للوكالة- إن خطوة البنك المركزي تحظى بدعم الولايات المتحدة والحلفاء الغربيين، ومن المرجح أنها حصلت على موافقة ضمنية من السعوديين، الذين يمولون حكومة عدن والبنك المركزي هناك.

 وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال مهم: هل يمكن أن تضحي السعودية بما تم إنجازه في المفاوضات مع جماعة أنصار الله خلال العام 2023؟ 

تسع سنوات مرت على حرب ضروس أوصلت الطرفين الرئيسين في الصراع (السعودية وجماعة أنصار الله الحوثية) إلى حالة من الإنهاك الشديد دون أن تلوح بوادر حسم نهائي ودون أن تظهر ملامح انتصار واضحة لأي منهما، لكنها أفقدت السعودية بعضاً من هيبتها العسكرية وبالمقابل منحت جماعة أنصار الله دفعة معنوية كبيرة وخبرة عسكرية لا يستهان بها مكنتها من استهداف المدن السعودية بمسيراتها وصواريخها؛  ولهذا مثلت التفاهمات بين الرياض وجماعة أنصار الله نقطة تحول في مسار الصراع في اليمن؛ إذ سعت الأولى إلى الحصول على ضمانات أمنية بعدم توجيه ضربات عسكرية عليها، وإنشاء منطقة عازلة على الحدود اليمنية السعودية مقابل وقف دائم لإطلاق النار، و دفع المملكة رواتب جميع الموظفين المدنيين والعسكريين الواقعين في المناطق الخاضعة لسلطة جماعة أنصار الله، علاوة على  تسيير وجهات جديدة للرحلات التجارية من وإلى مطار صنعاء، ودخول سفن الوقود إلى ميناء الحُديدة دون عوائق. 

لقد كان الهاجس الأمني لدى السعودية هو المحرك الرئيسي لتلك المفاوضات، لا سيما أن السعودية تبنت مؤخراً رؤية 20- 30 الاقتصادية التي تهدف إلى خلق اقتصاد مزدهر متعدد المصادر، ولن يكون ذلك الهدف قابلاً للتحقيق ما لم تتوافر له بيئة آمنة مستقرة.

أصبح واضحا أن محادثات الرياض (سبتمبر 2023) وقبلها محادثات صنعاء (أبريل 2023) هي في الحقيقة محادثات بين الفاعلين الحقيقيين (السعودية وأنصار الله)؛  وذلك يعني- بطريقة أو بأخرى- أن التفاهمات كانت بين هذين الطرفين حصرياً، وهو ما أثار حفيظة الأطراف الأخرى الفاعلة في الصراع مثل الحكومة المعترف بها دوليا والمجلس الانتقالي الجنوبي وحراس الجمهورية ودولة الإمارات العربية المتحدة، لكنها تغلبت على امتعاضهم عن طريق تسليم الملف إلى الأمم المتحدة وتمخض عن ذلك ما يُعرف بخارطة الطريق التي  تبناها المبعوث الأممي وأعلن عن قبول جميع الأطراف بها في نهاية عام 2023، وهنا أرادت السعودية أن تلعب دور الوسيط بين جماعة أنصار الله والأطراف اليمنية الأخرى المناوئة لها.

 كان إصرار السعودية على وصف دورها في المحادثات بالوسيط هي العقبة الكؤود التي أجلت من توقيع الاتفاق؛ إذ إن جماعة أنصار الله ترفض هذا التوصيف جملةً وتفصيلاً؛ لأن الرياض- من وجهة نظر جماعة أنصار الله- هي الطرف الأساسي في شن الحرب وعليها أن تتحمّل المسؤولية و إعادة الإعمار.

إذن، يمكننا القول: إن المفاوضات بين السعودية والحوثيين تمت تحت ظروف أمنية معينة كان عنوانها الأبرز “الأمن مقابل الاقتصاد وإنها الصراع”.

من المهم الإشارة إلى أن هذا التوجس الأمني للسعودية جاء بعد وصول إدارة الرئيس بايدن إلى السلطة في بداية عام 2021 وشعور السعودية بأن واشنطن قد خذلتها على المستوى الدفاعي، ولعله من المهم هنا العودة قليلاً إلى ربيع عام 2022 عندما استهدفت جماعة أنصار الله- وبشكل غير مسبوق- منشآت نفطية عملاقة تتبع شركة أرامكو النفطية في مدينتي جدة وجيزان عن طريق الصواريخ والمسيرات؛ نجم عنها أضرار مادية كبيرة، وتسببت في حرمان السعودية من عائدات مالية ضخمة.

 كانت تلك الهجمات بمثابة رسائل غاية في الأهمية مفادها: أن جميع مدن المملكة أصبحت تحت مرمى نيران جماعة أنصار الله.  حينها طلبت الرياض من واشنطن معاقبة “الحوثيين” بإعادة إدراجهم في قائمة الإرهاب، إلا أن واشنطن لم تفعل وعللت إحجامها عن ذلك بدواع إنسانية.

بطبيعة الحال، مثلت تلك الهجمات إشارة واضحة إلى أن الأنظمة الدفاعية الجوية للسعودية لم تعد بالكفاءة التي تمكنها على صد المسيرات والصواريخ “الحوثية”، لاسيما أنها جاءت بعد سحب واشنطن منظومة صواريخ باتريوت ومنظومة “THAAD” الحرارية للدفاع الجوي من السعودية في منتصف عام 2021، وهي  المنظومة التي كانت واشنطن قد عززت بها وجودها العسكري في المملكة العربية السعودية بعد الهجمات التي تعرضت لها منشآت نفطية في المملكة في سبتمبر 2019، وأدت إلى توقف إنتاج نحو 5.7 مليون برميل يوميا من الخام، وحينها وُجِهَت الاتهامات لإيران بالوقوف خلف تلك الهجمات.

انتقدت الرياض الصمت الغربي عموما والأمريكي خصوصاً تجاه الهجمات الحوثية، و لم يتوقف التذمر السعودي من موقف أمريكا إزاء الهجمات الحوثية عند هذه الحد؛ بل تجاوزها- من خلال بعض التغريدات والمقالات لكتاب سعوديين محسوبين على النظام السعودي- إلى إتهام أمريكا بتسهيل الهجمات الحوثية على منشآت النفط السعودية بسبب التزام الرياض باتفاقها مع موسكو حول معدل إنتاج النفط، وعدم موافقتها على زيادة الإنتاج لتعويض النقص الحاصل بإمدادات النفط في السوق العالمية بسبب العقوبات المفروضة على موسكو. وفي هذا السياق قال الخبير العسكري السعودي اللواء المتقاعد زايد العمري: إن “الهجمات على المملكة ليست قدرات حوثية ولا إيرانية بل هي أبعد من ذلك”. وتابع في حديث لقناة “الإخبارية” الرسمية: إن هناك طرفا يدعم الحوثي في محاولة “للتأثير على قرارات المملكة تجاه القضايا العالمية”. وبالمثل، قال الصحفي (عضوان الأحمري) رئيس تحرير “اندبندنت العربية” المملوكة للمجموعة السعودية للأبحاث: إن “استهدافات الحوثي المكثفة للأهداف البترولية في السعودية ليست مصادفة، وليست مرتبطة إطلاقاً بالتشويش على المشاورات اليمنية التي ستنطلق”. وأضاف في تغريدة: “ابحثوا عن المستفيد من الضغط على السعودية لخفض أسعار النفط وزيادة الإنتاج. هناك من يحاول الابتزاز عبر أكثر من محور، ولن يستفيد”، في إشارة منه إلى انعكاسات الحرب الروسية-الأكرانية على العلاقات السعودية الأمريكية وعلى حرب اليمن بشكل عام.

خلال الثلاثة الأشهر من عام 2022، وهي الفترة المحمومة بالهجمات وردة الفعل الانتقامية والتصريحات التحذيرية، بدأت مؤشرات إنهاء الانخراط السعودي في الحرب في اليمن تبدو أكثر جدية، و لوحظ تغير نسبي في خطاب المملكة التقليدي مقارنة بما عرف عنه من لهجة متحدية، فقد ظلت المملكة لأكثر من سبع سنوات تؤكد فيه قدرات دفاعاتها الجوية واستعدادها للتصدي لأية تهديدات، بمقابل نبرة تهوينية من الصواريخ والمسيرات “الحوثية” التي طالما وصفتها بـكونها مجرد “مفرقعات”.

وتجسد ذلك بإعلان الهدنة الإنسانية التي دخلت حيز التنفيذ في مستهل شهر أبريل 2022، وانتهت رسمياً في بداية شهر أكتوبر 2022 ، ومع ذلك فإن المواجهات العسكرية بين التحالف العربي بقيادة السعودية وجماعة أنصار الله قد توقفت تماماً حتى الساعة، وخفت حدة المواجهات داخل الجغرافيا اليمنية بنسبة كبيرة جداً.  وظلت الإدارة الأمريكية داعمة ومشجعة لمسار إنهاء الحرب حتى أكتوبر 2023.

ومن هنا نستطيع أن نستنتج أن السعودية رضخت لشروط جماعة أنصار الله الحوثية تحت ظروف عسكرية و أمنية معينة، شعرت خلالها أنها أصبحت بدون غطاء جوي يحميها من هجمات جماعة أنصار الله، ووفقا لتحليل نشره الخبير في شؤون الأمن القومي والسياسة الخارجية بمعهد “نيو لاينز” في واشنطن،(قمران بخاري)، ونشره بموقع “جيوبوليتيكال فيوتشرز” ، بأن الرياض مقيدة بعاملين حاسمين يعوقان قدرتها على تشكيل بيئتها الاستراتيجية في المستقبل المنظور، الأول هو اعتمادها بشكل كبير على دول أخرى لتحقيق أهداف أمنها القومي وسياستها الخارجية، والثاني هو امتلاك منافستها الجيوسياسية، إيران، لأدوات أكبر بكثير تحت تصرفها، وتصميمها على إحباط خطط المملكة في الشرق الأوسط. وهو ما يعني أن الرياض كانت تبحث عن سد الفجوات التي قد تشكل تهديداً لأمنها القومي؛ فعملت على تبريد أزماتها مع إيران ومع جماعة أنصار الله. 

صفقة التطبيع: البديل المحتمل لسد الثغرة الأمنية

 منذ منتصف العام 2023، كثر الحديث عن مسعى أمريكي للوصول إلى صفقة شاملة بين المملكة العربية السعودية وأمريكا وإسرائيل من شأنها أن تعيد رسم الخريطة الجيوسياسية لمنطقة الشرق الأوسط وتُشكل تحولاً مهمًا في مواجهة نفوذ إيران والكيانات المنضوية تحته في المنطقة، ومن ضمنها جماعة أنصار الله. وبحسب ما هو متداول في الكواليس الأمريكية فإن الاتفاقية الأمنية المزمع إبرامها تتضمن تسليح الرياض بأسلحة متقدّمة وضمانات بالدفاع عن المملكة مقابل تطبيع الأخيرة مع إسرائيل ووقف لمشتريات الأسلحة الصينية والتقييد أو الحدّ من الاستثمارات الصينية في السعودية.

وانطلاقا مما يمثله البعد الأمني من أولوية لدى السعودية، فإن تقديم هذه الضمانات الأمريكية ستريح السعودية وتجعلها تتغلب على العقدة الأمنية والتهديدات التي تمثلها إيران وجماعة أنصار الله الحوثية، وفي الوقت نفسه ستمثل متنفسا للتخلص من ضغوط جماعة أنصار الله التي تطالب الرياض بتوقيع الاتفاق بأسرع وقت ممكن بوصفها طرفا رئيسيا في الحرب لا بوصفها مجرد وسيط.  ولما كانت هذه الصفقة، في حال إبرامها، ، ستلبي احتياجات السعودية الدفاعية نتيجة رفع القيود على مبيعات السلاح الأمريكي المتقدم، كما أن الالتزام الدفاعي الأمريكي سيحصنها من هجمات أنصار الله الحوثية، فإن موقف السعودية في الملف اليمني في المحصلة سيتعزز وستكون في موقف عسكري وتفاوضي أقوى.

ومن جهة أخرى تدرك جماعة أنصار الله -بلاشك- أن واشنطن تغازل الرياض لإتمام صفقة التطبيع، وربما لديها شكوك بأن الرياض قد تقدم على توقيع الصفقة قبل الموافقة على توقيع اتفاقية إنهاء الحرب، وبالتالي، ستفقد جماعة أنصار الله المكاسب التي حققتها حتى الآن.  ولعل هذا ما يدفع جماعة أنصار الله  لتبدو أكثر استعجالاً وحاجة لتحريك المفاوضات وإخراجها من حالة المراوحة التي تعيشها منذ حوالي 10 أشهر، ما لم فإنها- بحسب تصريحات قياديها- لن تظل مكتوفة الأيدي، في إشارة إلى استئناف هجماتها ضد السعودية. 

بالمقابل، تدرك واشنطن مخاوف أنصار الله من إبرام صفقة التطبيع بين الرياض وتل أبيب، وهذا ما يدفع واشنطن للضغط على السعودية بعدم الاستعجال في التوقيع على اتفاقية إنهاء الحرب مع “الحوثين”.

إذا ما أبرمت هذه الصفقة قبل توقيع الاتفاق على إنهاء الحرب بين السعودية وجماعة أنصار الله، فإن هذه الصفقة ستتسبب بخلق تعقيدات إضافية للملف اليمني وهو ما يجعل التوصل إلى اتفاق سلام أكثر صعوبة.

ختاما، تتعرض جماعة أنصار الله خلال هذه الفترة إلى ضغوط اقتصادية هائلة تتمثل في قرار نقل مراكز البنوك إلى عدن وقرارات تحويل إيرادات الخطوط الجوية اليمنية وقطاع الاتصالات إلى البنك المركزي بعدن، وكل هذا سيؤدي في النهاية إلى نسف آمال السلام ؛ إذ تتهم جماعة أنصار الله أمريكا والسعودية بالوقوف خلف كل هذه التطورات، وبحسب وصف زعيم الجماعة  ( السيد عبد الملك الحوثي) ، في حديث متلفز، مساء الخميس الماضي، فإن ذلك يعتبر بمثابة “صب الزيت على النار”. وأضاف أن الضغط على البنوك في صنعاء مسعى أميركي لدعم العدو الإسرائيلي، في إشارة إلى أن هذه القرارات ردة فعل على هجمات البحر الأحمر.  وبالمثل قال عضو المكتب السياسي لأنصار الله محمد البخيتي ، في تدوينة على ( إكس): ” رغم مماطلة السعودية في استكمال تنفيذ بنود الاتفاق المتعلقة برفع الحصار كليا ودفع مرتبات الموظفين وإطلاق سراح الأسرى وسحب قواتها من اليمن إلا أننا لم نلجأ للتصعيد منذ انتهاء الهدنة  “. مضيفاً: ” لجوء السعودية للتصعيد ونحن في حالة حرب مباشرة مع أمريكا من أجل فلسطين سيكلفها الكثير” .

واستنادا إلى كل ما سبق، فالوضع القائم في اليمن مقلق ومستقبله غير واضح، وأن مسار السلام في اليمن مرهون بديناميكيات متعددة أهمها تطور الصراع في غزة، وصفقة التطبيع بين السعودية وإسرائيل، والرؤية الأمريكية والسعودية لتطورات الصراع.  باختصار، يبدو المشهد قاتمًا و أقرب إلى الحرب منه إلى السلام.

***

ملاحظة: الآراء الواردة في هذا المقال هي للكاتب ولا تعكس بالضرورة آراء مركز يمن انفورميشن.