ماذا بعد فتح الطرقات؟ الفرص والتهديدات لمسار السلام في اليمن |
ملخص تنفيذي لقرابة عقد من الزمن ظلت مسألة الطرق المغلقة نتيجة للصراع الدائر في اليمن إحدى النقاط الشائكة في المفاوضات السابقة بين أطراف الصراع. لكن، وفي خطوة مفاجئة أعلنت جماعة أنصار الله الحوثية من اتجاه واحد فتح الطرقات، وأهمها طرقات تعز. جاءت مبادرة فتح الطرقات تحت عناوين إنسانية، لكنّ المتمعن في مسار الصراع منذ بدايته قبل 10 أعوام لا يمكنه أن يعزل هذه المبادرة من أبعاد سياسية واقتصادية؛ لأنها تأتي في ظل تعثر عملية السلام بين جماعة أنصار الله والمملكة العربية السعودية، وفي غمرة موجة من التصعيد العسكري الذي تقوم به جماعة أنصار الله ضد أهداف إسرائيلية أو مرتبطة بإسرائيل، وتأتي تحت ظروف حرب المصارف والاقتصاد بين الحكومة الشرعية المعترف بها دوليا وجماعة أنصار الله؛ وكلها ظروف ومؤشرات أقل ما يمكن أن توصف به بأنها محبطة لعملية السلام. لكن، وعلى الرغم من هذه المؤشرات المقلقة، فإن مبادرة فتح الطرقات تأتي منسجمة مع مسار خارطة الطريق التي أعلن عنها المبعوث الأممي نهاية العام الماضي، وبالتالي فإنه يمكن قراءتها بوصفها تنفيذًا استباقيًا لأحد بنود خارطة الطريق. يتناول هذا التحليل المقتضب دوافع هذا الإجراء أحادي الجانب وما يترتب عليه من فرص وتهدديدات على العملية السلمية في اليمن . |
تمهيد
عشر سنوات من الصراع في اليمن بين جماعة أنصار الله من جهة والتحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية والحكومة المعترف بها دولياً من جهة أُخرى؛ أوصلت اليمن إلى أكبر مأساة إنسانية في العالم، وفي طليعة هذه المأساة وأشدها قساوة على اليمنيين هو إغلاق الطرق والممرات بين بعض المدن اليمنية وتقطيع أوصالها ما بين مناطق تسيطر عليها جماعة أنصار الله ومناطق أخرى تسيطر عليها الحكومة المعترف بها دوليا.
تمثل مدينة تعز نموذجاً للمأساة؛ فقد فُرِضَ عليها حصار خانق من ثلاثة اتجاهات، وبقى لديها منفذ وحيد غرب المدينة يربط تعز بمدينة عدن عبر طريق يمر جنوباً بمدينة التربة ويمتد لحوالي ست ساعات، بعد أن كان الطريق الرسمي الواصل بين المدينتين عبر الحوبان يستغرق حوالي ساعتين ونصف فقط.
خلال عامي 2015 و 2016، أُغلقت الطرق الرئيسية المؤدية إلى الشمال الشرقي باتجاه منطقة الحوبان والتي تصل مدينة تعز بجميع المحافظات اليمنية ، وكذلك إغلاق الطرق المؤدية إلى الشمال والشمال الغربي والتي تربط مدينة تعز بمديريات تعز ذات الكثافة السكانية العالية وكذلك بمحافظة الحديدة، وبالتالي ظلت المدينة لما يربو من 10 سنوات مقسمة الأوصال ومحاصرة، وهو ما جعل المواطنين يسلكون طرقا التفافية وعرة ومحفوفة بكثير من المخاطر والمعاناة التي لا يمكن أن يتخيلها سوى من عايشها، و خصوصاً المرضى وكبار السن والنساء والأطفال، فضلاً على ما يترتب من سلوك الطرق الالتفافية من ارتفاع لأسعار المواد الغذائية نتيجة لارتفاع أجور نقل السلع؛ فوفقاً لما ذكرته منظمة سام ارتفعت تكاليف وصول المواطنين من الحوبان إلى وسط المدينة من 100 ريال إلى 15000 ريال، وبدلا من الوصول خلال 10 دقائق يحتاج الوصول من الحوبان إلى وسط المدينة ما يزيد عن 8 ساعات في طرق بديلة شديدة الوعورة تسببت في 481 حادثا مروريا، ونتج عنها 374 حالة وفاة و 966 حالة إصابة، وخسارة مالية تقدر بأكثر من 474 مليون ريال، بحسب تقرير للسلطة المحلية بمحافظة تعز في يوليو 2023.
والمتأمل في البواعث التي تقف وراء إغلاق المعابر إلى تعز يجد لكل طرف من طرفي الصراع سرديته في هذه القضية؛ ففي حين تذهب سردية الحكومة المعترف بها دولياً، ويؤيدهذه السردية 16 منظمة حقوقية عاملة في اليمن، إلى أن جماعة أنصار الله تمارس بغلق الطرق المؤدية إلى تعز عقاباً جماعياً وانتهاكا لحقوق الإنسان بحصارها ملايين المواطنين في محافظة تعز، التي تحتل المرتبة الأولى من حيث عدد سكان الجمهورية، إذ يشكل سكانها ما نسبته (12.16%) من سكان الجمهورية، وفقا للمركز الوطني للمعلومات. بالمقابل ترى سردية جماعة أنصار الله أن “المرتزقة” المحسوبين على دول العدوان وعلى “جماعات إرهابية وإخوانية” هي من يحاصر مدينة تعز لأغراض دعائية ومادية.
وبين هاتين السرديتين هناك سردية أقل تشدداً؛ إذ ترى أن جماعة أنصار الله لا تقف خلف حصار تعز بشكل مقصود؛ فهي تسيطر على الأجزاء الشرقية والشمالية والجنوبية- الشرقية من المدينة، بينما تتمركز قوات من الجيش التابع للحكومة الشرعية في الجهات المقابلة لصد الجماعة من الدخول إلى المدينة مجدداً؛ وبهذا أصبحت تلك المعابر مناطق تماس ساخنة تخلو من السكان تماماً،. وبالتالي تشترك الحكومة المعترف بها دولياً- وفقاً لهذه السردية- ب “حصار” تعز. وفي هذا السياق قال القيادي محمد علي الحوثي، في تغريدة له في شهر مايو 2022، إن جماعته مستعدة لفتح الطرقات لكنها اشترطت “إنهاء الاقتتال” و “رفع المواقع من الجانبين”، لكن الطرف الآخر يرى أن ذلك سيترك المدينة لقمة سائغة لجماعة أنصار الله وسيكون بإمكانها الانقضاض على المدينة في أي وقت.
ومهما يكن الأمر، فإن لكل طرف مبرراته ولسنا هنا بصدد دعم أو دحض تلك المبررات؛ ما يهمنا هنا أن هذا التباين شكل معضلة أساسية في مفاوضات السلام السابقة ؛ إذ كانت الحكومة المعترف بها دوليا دائما ما تضع فتح الحصار عن مدينة تعز الشرط الأهم في أجندتها، بينما كانت جماعة أنصار الله تنفي ارتباطها بحصار المدينة.
وفي الوقت الذي كانت جماعة أنصار الله تنفي علاقتها بحصار المدينة أو ترفض إعادة فتحها لدواع أمنية أو عسكرية، كانت الحكومة المعترف بها دولياً بالمقابل تقف عاجزة عن تقديم أي حلول لتخفيف معاناة المواطنين سوى الاستنجاد بالمبعوث الأممي الذي كان هو الآخر ليس له حيلة في دفع أطراف الصراع نحو فتح الطرقات فيكتفى بالمناشدات حاله حال المبادرات المجتمعية التي وصلت أيضاً إلى طريق مسدود. واستمر الأمر دون حرك لما يقرب من عشر سنوات حتى أعلنت جماعة أنصار الله الحوثية في السابع من يونيو الحالي (2024) وبشكل مفاجئ عن فتح طريقين رئيسيين إلى مدينة تعز: الأول هو الحوبان- مركز المدينة، ويخصص للمسافرين ووسائل النقل الخفيفة، والطريق الثاني الستين -الخمسين -مدينة النور- بير باشا ويخصص لشاحنات النقل الثقيل والمتوسط، وقد جاء ذلك – بحسب ما صرح به القائم بأعمال محافظ تعز المعين من قبل جماعة أنصار الله (أحمد المساوى)- تنفيذا “لتوجيهات قائد الثورة السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي، ورئيس المجلس السياسي الأعلى المشير الركن مهدي المشاط”. وقال المساوى في تصريح صحفي إنه “يحل على أبناء محافظة تعز عيدان، عيد الأضحى المبارك، وعيد فتح الطريق الرئيسي الحوبان تعز، من أجل تخفيف المعاناة على المواطنين وإعادة الحياة إلى طبيعتها، التي حاول العدو أن يمزق أوصالها”.
وفي المقابل، رحبت الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً بمبادرة فتح الطرقات، و بعد أسبوع صرحت عن طريق رئيس لجنة التفاوض لفتح الطرقات (عبد الكريم شيبان) في مؤتمر صحفي :
“يسرنا اليوم (13 يونيو 2023) فتح طريق الكمب- جولة القصر الذي ظل مقطوعاً من قبل مليشيا الحوثي منذ ٩ سنوات وتسبب في معاناة لأبناء المحافظة”. وأضاف شيبان “أن الفضل في افتتاح الطريق يعود لصمود أبناء تعز، وتضحياتهم، وكذلك تضحيات أبطال الجيش ورجال المقاومة الشعبية خلال فترة الحصار وصولاً إلى كسر هذا الحصار الذي فرض على المدينة ظلماً وعدوانا “.
تأتي خطوة فتح الطريق الرئيسية لمدينة تعز بعد 3 أشهر من فتح جماعة أنصار الله طريقاً فرعيا يربط بين منطقة حيفان بمحافظة تعز ومديرية طور الباحة في محافظة لحج ويؤدي إلى محافظة عدن جنوب اليمن، ويأتي أيضا بعد أيام من إعلان الجماعة لفتح طريق محافظة البيضاء إلى مدينة مأرب.
يتساءل هذا التحليل عن الدوافع التي أدت إلى فتح الطرقات ودلات ذلك على مسار السلام في اليمن.
تفاهمات سابقة حول معابر تعز
خلال سنوات الحصار التسع الماضية، ظلت معابر تعز ملفاً على طاولة المفاوضات التي رعتها الأمم المتحدة، والوساطات المحلية بين ممثلين عن جماعة “أنصار الله” الحوثيين، و السلطات المحلية الممثلة للحكومة المعترف بها دولياً، ففي أكتوبر من عام 2015 تزعم بعض الناشطين بمحافظة إب مبادرة إنسانية لفك الحصار عن مدينة تعز عرفت بـ”مسيرة الماء”، لكنها أُجهضت في مهدها، ثم أصبحت طرقات تعز المغلقة من ضمن أجندات المفاوضات السياسية التي جرت بين الحكومة وجماعة أنصار الله، ففي ديسمبر 2015، عُقِدَت مشاورات برعاية الأمم المتحدة، في مدينة “بيل” السويسرية، وقيل حينها بأن المفاوضات انتهت بتوافق مبدئي على رفع الحصار عن تعز، لكن لم يحدث شيء، وفي أبريل 2016 تم طرح موضوع المعابر ثانية في مباحثات “ظهران الجنوب”، ومن نتائجها تشكيل لجنة للإشراف والتهدئة في تعز، وكان أحد بنودها يتعلق بفتح الطرق إلى تعز، و فشلت اللجنة قبل لقائها، وفي يوليو 2016 خرجت مفاوضات الكويت بمبادرة أممية تحت رعاية المبعوث الأممي إسماعيل ولد الشيخ من ضمنها فتح المعابر إلى تعز، وفي أغسطس 2018، شكل محافظ تعز السابق، أمين محمود، لجنة برئاسة عبدالكريم شيبان للتفاوض مع جماعة أنصار الله ، لكن لم يكتب لها النجاح أيضاً، وفي ديسمبر 2018، تم التوقيع على ما سُمِي باتفاق “ستوكهولم” تحت رعاية المبعوث الأممي مارتن غريفيث وكان من ضمنه بنود إنسانية حيوية، بينها “تفاهمات” لفتح الطرقات إلى مدينة تعز، ولم يحرز أي تقدم بهذا الشأن، وفي إحاطة له أمام مجلس الأمن، قال غريفيث: “لا ينبغي أن يعيش أي أحد في ظل ظروف كهذه، ومن المخجل لنا جميعا ألا يكون الاتفاق الذي تم التوصل إليه في ستوكهولم حول تعز قد أتى بنتائج”، وفي أكتوبر من عام 2019 تقدم محافظ محافظة تعز الأسبق، شوقي أحمد هائل، بمحاولات لفتح المعابر أحدثت حراكاً مجتمعيا وتمخض عنها تحركات قام بها وفد التحالف المدني للسلم والمصالحة الذي يترأسه د. حمود العودي، رئيس الهيئة التنسيقية للتحالف، والمهندس عبدالرحمن العلفي، الأمين العام للتحالف، وفي أبريل 2022، نصت بنود الهدنة الأممية، التي تم بموجبها إيقاف العمليات العسكرية، على فتح طرقات تعز، لكن جميع تلك المبادرات والاتفاقات باءت بالفشل. وأخيرا، تضمنت خريطة الطريق الأممية الخاصة بالمبعوث الأممي إلى اليمن عدداً من الملفات، تبدأ بالملف الإنساني الهادف إلى تخفيف المعاناة عن الشعب اليمني ومنها فتح الطرقات، وخاصة طرقات تعز، إلا أن الاتفاق برمته وضع في الأدراج حتى تتهيأ الظروف لتوقيعه أو يحدث شيء ما ينسفه ويعيد الصراع إلى المربع الأول.
لماذا فتح الطرقات الآن إذن؟
من الصعب الوصول إلى أسباب موضوعية يمكن أن تفسر هذا الإجراء، ولكن هناك عدة تفسيرات وراء إعلان جماعة أنصار الله فتح الطرق وخاصة طريق الحوبان؛ منها: الإنساني و السياسي والاقتصادي والاجتماعي، غير أن النظر إلى توقيت هذا الإعلان الذي جاء قبل عيد الأضحى بعدة أيام-وهو ما أضفى عليه طابعاً إنسانيا بامتياز- يجعل من الدافع الإنساني الأبرز لفهم أسباب هذا الإجراء المفاجئ،
ومع ترجيح هذا البعد الإنساني الذي يجب تشجيعه وتعزيزه وتوفير عوامل استدامته، فإن ثمة عوامل أخرى لاينبغي استبعادها:
خطوة تكتيكية و استباقية لمفاوضات السلام
ظل موضوع فتح الطرق المؤدية إلى مدينة تعز وإنهاء الحصار الذي فُرِضَ على المدينة منذ 9 أعوام يتصدر مفاوضات السلام ويشكل شرطا أساسياً تحرص الحكومة الشرعية على إدراجه في بنود أي اتفاق، وهو ما يعني أن عدم فتح المعابر قد صار يشكل عقبة حقيقية نحو المضي قدماً في مفاوضات السلام القادمة كون تجاوز هذا الملف في أي مفاوضات قادمة سيشكل إحراجا سياسياً للحكومة المعترف بها دولياً وعلى الأمم المتحدة أيضاً، لاسيما إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن بعض بنود التفاهمات السابقة مثل فتح مطار صنعاء والموانئ قد نُفِذت. ومن هنا ربما تدرك جماعة أنصار الله حتمية فتح الطرق إن أرادت التقدم في عملية خارطة الطريق. ليس سرًا أن جماعة أنصار الله تدفع الوسيط العماني للضغط على السعودية بتوقيع الاتفاق وتهدد بعودة الحرب إن تنصلت عن التفاهمات السابقة. وبالمثل، السعودية حريصة على توقيع الاتفاقات لكنها تفعل ذلك على نار هادئة. وهو ما يشير إلى احتمالية أن يكون فتح الطرق جاء بتفاهمات سعودية حوثية – عن طريق وساطة وضغط عماني- تهدف لحماية جهود السلام من الانتكاس بفعل أجواء التصعيد محليا وإقليميا، ويبدو أن كلا الطرفين يسعيان إلى الحفاظ على تلك التفاهمات من الانهيار التام، وخاصة المملكة العربية السعودية التي تريد أن تتخلص من عبء هذا الملف المعقّد والمرهق واستكمال عملية التهدئة الشاملة في المنطقة وتصفير المشاكل مع جماعة أنصار الله الحوثية. وبالتالي، فإن فتح الطرقات إلى مدينة تعز قد يكون بمثابة الإكسير الذي سيبقي خارطة الطريق على قيد الحياة.
يمكن القول بأن فتح الطرقات ينسجم مع ما أعلنه المبعوث الأممي هانس غروندبيرغ في نهاية العام الماضي من أن أطراف الصراع في اليمن تقترب من التوقيع على خارطة طريق تنهي المعاناة الإنسانية، وتمهد لمرحلة سياسية قادمة، ويتناغم تماماً مع حديث غروندبيرغ قبل أيام عن سعيه إلى لقاء مباشر بين رئيس مجلس القيادة الرئاسي (رشاد العليمي) ورئيس المجلس السياسي الأعلى لجماعة أنصار الله الحوثية (مهدي المشاط)، وهذا كله يتماشى مع الدور الفعال الذي تقوم به سلطنة عمان في التقريب بين طرفي الصراع، ويبدو أن لها دورا كبيرا في إعادة فتح الطرقات ورفع الحصار عن مدينة تعز، ومن غير المستبعد أن تكون إيران وراء هذا التحرك أيضاً.
من هنا يمكننا القول :إن فتح الطرقات جاء بوصفه مقدمة لفكفكة الحلقات المعقدة قبل البدء بمشاورات خارطة الطريق، وقد يتساءل البعض: لماذا لم يترك موضوع فتح الطرقات ورقة تفاوضية بيد جماعة أنصار الله تطرح في مفاوضات الحل النهائي؟
ربما لا ترغب جماعة أنصار الله في أن تترك هذه النقطة الشائكة لتكون بندا في اتفاقية خارطة الطريق حتى لا تبدو أنها تستثمر هذا الوضع الإنساني الحساس للمزايدة والحسابات السياسية، وبالتالي تبدو أنها فتحت الطرق مرغمة؛ ذلك أنها إذا ما أجلت فتح الطرقات وتركته ورقة تفاوضية فإن ذلك سيؤكد الشكوك حول وقوفها خلف حصار المدينة؛ وبذلك ستفقد التعاطف الشعبي الكبير الذي نالته بسبب مساندتها لحركة المقاومة حماس. بينما بعد فتح الطرقات، ستكون مشكلة حصار الطرقات قد تم تجاوزها ومن خلال معالجة إنسانية ينسب الفضل بها إلى جماعة أنصار الله وليست نتاج ضغوط سياسية.
ومع كل ما ذكر، فمن المهم عدم أخذ الأمور على عواهنها؛ لأن واقع الحال والتصريحات السياسية والخطابات المتشنجة من قبل جماعة أنصار الله تجعل القارئ لمستقبل العملية السياسية في اليمن في حيرة من أمره بل أنها تشير إلى أن فرص السلام لا تبدو كبيرة في الوقت الحالي، وذلك لما تمر به اليمن في هذه المرحلة من توتّرات، منها ما هو ناجم عن الوضع في الإقليم وتحديدا الحرب الجارية في قطاع غزّة التي أدت بجماعة أنصار الله لاستهداف السفن الإسرائيلية وما تطلبه ذلك من ردّ عسكري أميركي – بريطاني، فضلا عن ما يحدث في اليمن بين طرفي الصراع من حرب اقتصادية وإعلامية، وكذلك التصريحات الصادرة من جماعة أنصار الله التي تميل إلى التشاؤم أكثر منها إلى التفاؤل، كان آخرها – على سبيل المثال لا الحصر- ما صرح به رئيس لجنة التفاوض القيادي في جماعة أنصار الله (محمد عبد السلام) لقناة الميادين قبل أيام من أن ” واشنطن تسعى إلى زج السعودية في معركة تُشغل اليمن عن نصرة غزة”، وأضاف: “أن الاتفاق مع السعودية جُمّد منذ بدء عملية طوفان الأقصى”، وحذرها “من شن أي عدوان جديد على اليمن”.
ومع أن الهدفين الإنساني والسياسي يظلان الأقرب لفهم هذا التغير المفاجئ في نهج جماعة أنصار الله تجاه فتح الطرقات فإنه لا يمكن استبعاد أهداف أخرى قد لا تكون أقل أهمية:
دحض الصورة السلبية و امتصاص الغضب الشعبي
منذ نوفمبر 2023، ركزت جماعة أنصار الله جهودها العسكرية على العمليات البحرية ضد السفن الإسرائيلية في البحر الأحمر وخليج عدن والبحر العربي بهدف الضغط على تل أبيب لوقف العدوان على غزة وفك الحصار عنها، وقد لاقى تعاطفًا شعبيًا كبيرًا بين اليمنيين الذين عُرف عنهم دعمهم التاريخي للقضية الفلسطينية.
إلا أن حجة تبرير عملياتهم العسكرية في البحر بأنها من أجل فك حصار غزة يضعفها مصداقيتها ما تعيشه تعز من حصار، يؤيد ذلك ما لوحظ خلال الأشهر الماضية في مدينة تعز من تأجج حملات اجتجاجية في وسائل التواصل الاجتماعي من مثل الحملة التي بعنوان: “افتحوا الطرقات” أو “الرايات البيضاء”، فضلا عن مشاركة الآلاف من أهالي مدينة تعز في مسيرة حاشدة يوم الجمعة (1 مارس 2024) تضامنا مع الشعب الفلسطيني ورفعوا الأعلام الفلسطينية واليمنية ولافتات تندد بالحصار الذي تفرضه إسرائيل على قطاع غزة والحصار الذي تفرضه جماعة أنصار الله على تعز منذ سنوات وحملوا فيها لافتات كتب عليها: “من يحاصر تعز لا يمكنه كسر الحصار الإسرائيلي على غزة” وعبارات أخرى “الحوثي وإسرائيل وجهان لعملة واحدة” و”فلسطين في قلوبنا وتعز في دمائنا” إلى ما هنالك من شعارات.
وفي ضوء ما سبق قد تكون جماعة أنصار الله وجدت نفسها في حالة انكشاف شعبي؛ إذ لا يستقيم الحال أن تسعى إلى فك الحصار عن قطاع غزة في حين توصف بأنها تحاصر مدينة يمنية؛ وبهذا يمكن أن تكون تلك الهتافات والعبارات قد سببت حرجاً لجماعة أنصار الله التي أرادت أن لا تفقد مصداقية أهدافها المعلنة في فك حصار غزة وفي نفس الوقت دحض فكرة “الحصار الحوثي” التي ترسخت في عقول الكثيرين على مدى 10 سنوات من الصراع. باختصار. ربما هذه اللافتة المكتوب عليها “فك حصار تعز هو انتصار لغزة المحاصرة” يلخص تجاوب جماعة أنصار الله مع المطالب الشعبية لسكان مدينة تعز .
ردة فعل على إجراءات البنك المركزي بعدن
يشير تزامن إعلان فتح الطرقات مع حرب المصارف بين حكومتي صنعاء وعدن، إلى أن فتح الطرق قد جاء ردة فعل أو إجراء اقتصاديا لمواجهة سد العجز في العملة الصعبة المتوقع حدوثة في الأشهر القادمة إذا ما استمر مركزي عدن في تنفيذ إجراءاته وكذلك تطبيق بقية الإجراءات كتحويل كافة إيرادات شركة الخطوط الجوية اليمنية إلى حساباتها البنكية في عدن أو إلى الخارج ومثلها وزارة الاتصالات؛ أي إن جماعة أنصار الله ستستفيد من العملة الصعبة التي سيخرجها المواطنون من داخل المحافظات الواقعة تحت سيطرة الحكومة المعترف بها دولياً إلى المحافظات الواقعة تحت سيطرة أنصار الله .
وفي سياق البعد الاقتصادي، ذكرت صحيفة 26 سبتمبر التابعة لجماعة أنصار الله أن “حكومة المرتزقة المقيمة بفنادق الرياض لديها مخاوف كبيرة من فتح أي منفذ أو طريق يربط بين مدينة تعز والحوبان وتلك المخاوف لا علاقة لها بأبناء تعز بل أنها ستنتزع منهم مشروعية المتاجرة بقضية تعز واستثمار معاناة وآلام وجراح أبنائها. وأوضحت المصادر أن فتح أي طريق بين المدينة والحوبان سيسقط مسمى ” حصار تعز ” وستفقد المنظمات والجمعيات وقيادة حكومة الفنادق ومسؤولي مدينة تعز مليارات الدولارات التي يتم استلامها من دول العدوان والممولين خارجيا وتقدم تحت مسوغ مساعدات ومعونات إنسانية لأهالي المدينة فيما هي تذهب إلى أرصدة تجار الحرب على اليمن.
ملاحظة ختامية:
ما من شك في أن فتح الطرق هو الإنجاز الأخلاقي والإنساني الوحيد الذي حُقِق بعد 10 سنوات في سبيل تخفيف المعاناة عن المواطنين واستعادة اللُحمة والتماسك المجتمعي. ربما لن يشعر بالقيمة الحقيقية والفرحة الغامرة لفتح المعابر إلا من عانى من ويلات الطرق الالتفافية وخطورتها ومن حظي بتجربة تجاوز نقاط العبور بعد إغلاق دام لقرابة عقد من الزمن.
ليس البعد الإنساني هو المهم وحسب، بل إن فتح الطرقات سيسهم في الدفع بعملية السلام وبناء الثقة ويفتح الآمال نحو مستقبل يعم بالأمن والسلام، وهنا اقتبس ما قاله القيادي بجماعة أنصار الله (حسين العزي) على منصة إكس: “في الحالمة تعز يفصل بين النقطتين عدة أمتار…يوم أمس تبادل الجنود التهاني بالعيد مشفوعة بدعوات متبادلة لتناول الغداء… نعم، نختلف بشدة، ولكن ما إن يغيب العنصر الأجنبي حتى نأتلف بسرعة و80% من مشاكلنا تنتهي بمجرد أن يصافح أحدنا الآخر. بقيت لاءان فقط ثم نصبح إخوة: لا للخارج المعتدي ولا لتأييده”.
لكن هذه السعادة وهذا التفاؤل مشوبان بالحذر، فبقدر ما تكون خطوة فتح الطرق بارقة أمل نحو السلام فقد تكون بؤرة لحرب أوسع وأعم؛ من المشاهد التي لا تخطئها العين هو اللافتات التي وضعت في نقاط التماس بين الجانبين حيث ترفع إحداها شعارات الولاء للسيد عبد الملك الحوثي، بينما يرفع الطرف الآخر شعارات :”هنا لا سيد إلا الشعب”، وبين هذين الشعارين وبين هاتين النقطتين الفاصلتين خط لا يتعدى بضعة أمتار، يمكن القول بأن هذا هو الخيط الرفيع الذي يفصل بين الحرب و السلام.
توصيات:
- يتخوف الكثيرون من أنه إذا ما حدث اختلاف أو تهور في نقاط التماس من أحد الجانبين، لاسيما في ظل غياب رقابة أممية أو مجتمعية أو طرف ثالث، فإن الوضع قد يخرج عن السيطرة، وقد تنشب مواجهات مسلحة تكون بمثابة بؤرة لموجة جديدة من الصراع ؛ ولهذا ينبغي السماح لتدخل طرف ثالث يشرف على نقطة التماس الفاصلة بين الطرفين وليكن ذلك الطرف الثالث تحت إشراف أممي أو مجتمعي .
- على الطرفين المحافظة على هذا الإنجاز الإنساني والأخلاقي، و التحلي بالصبر والحكمة والابتعاد عن الاستفزازات، وعدم رهن هذا الملف الإنساني بالمزايدات والحسابات السياسية. وعلى الطرفين أن يدركا أن الشعب لن يرحمهما ولن يقبل أي مبررات منهما إذا ما حدثت أي انتكاسة لهذه الخطوة الرائعة.
***